من رسالة الشيخ علي الطنطاوي إلى البنات
يا ابنـتي
يا بنتي ! أنا رجل، قد فارق الشباب، وودع أحلامه وأوهامه، ثم إني سحت في البلدان ولقيت الناس ، وخبرت الدنيا ، فاسمعي مني كلمة صحيحة صريحة من سني وتجاربي ، لم تسمعيها من غيري ، لقد كتبنا ونادينا ندعو إلى تقويم الأخلاق ، ومحو الفساد ، وقهر الشهوات ، حتى كلَّت منا الأقلام ، وكلَّت الألسنة ، وما صنعنا شيئاً، ولا أزلنا منكراً ، بل إن المنكرات لتزداد ، والفساد ينتشر ، والسفور والحسور والتكشف تقوى شِرَّتُهُ، وتتسع دائرته، ويمتد من بلد إلى بلد، حتى لم يبق بلد إسلامي (فيما أحسب) في نجوة منه، حتى الشام التي كانت فيها الملاءة السابغة، وفيها الغلو في حفظ الأعراض، وستر العورات، وقد خرج نساؤها سافرات حاسرات ، كاشفات السواعد والنحور !
ما نجحنا وما أظن أننا سننجح . أتدرين لماذا ؟
لأننا لم نهتد إلى اليوم إلى باب الإصلاح، ولم نعرف طريقه . إن باب الإصلاح أمامك أنت يا بنتي، ومفتاحه بيدك، فإذا أمنت أنت يا بنتي على دخوله صلحت الحال، صحيح أن الرجل هو الذي يخطو الخطوة الأولى في طريق الإثم، لا تخطوها المرأة أبداً، ولكن لولا رضاك ما أقدم، ولولا لينك ما اشتد، أنت فتحت له، وهو الذي دخل، قلت للص : تفضل.. فلما سرقك اللص ، صرخت: أغيثوني، يا ناس سُرقت … ولو عرفت أن الرجال جميعهم ذئاب وأنت النعجة لفررت فرار النعجة من الذئب، ولو ذكرت أنهم جميعاً لصوص لاحترست منهم احتراس الشحيح من اللص.
وإذا كان الذئب لا يريد من النعجة إلا لحمها، فالذي يريده الرجل أعز عليك من اللحم على النعجة، وشر عليك من الموت عليها: عفافك الذي به تشرفين، وبه تفخرين، وبه تعيشين. وحياة البنت التي فجعها الرجل بعفافها، أشد بمئة مرة من الموت على النعجة التي فجعها الذئب بلحمها… أي والله، وما رأى شاب فتاة إلا جردها بخياله من ثيابها، ثم تصورها بلا ثياب.
أي والله، أحلف لك مرة ثانية، ولا تصدقي ما يقوله بعض الرجال، من أنهم لا يرون في البنت إلا خلقها وأدبها، وأنهم يكلمونها كلام الرفيق، ويودونها ود الصديق كذب والله، ولو سمعت أحاديث الشباب في خلواتهم، لسمعت مهولاً مرعباً، وما يبسم لك الشاب بسمة، ولا يلين لك كلمة، ولا يقدم لك خدمة، إلا وهي عنده تمهيد لما يريد، أو هي إيهام لنفسه أنها تمهيد.
وماذا بعد ؟ ماذا يا بنت ؟ فكري!
تشتركان في لذة ساعة ، ثم ينسى هو، وتظلين أنت أبداً تتجرعين غصصها، يمضي (خفيفاً) يفتش عن مغفلة أخرى يسرق منها عِرضها، وينوء بك أنت (ثقل) الحمل في بطنك، والهم في نفسك، والوصمة على جبينك. يغفر له هذا المجتمع الظالم، ويقول : شاب ضل ثم تاب ، وتبقين أنت في حمأة الخزي والعار طول الحياة ، لا يغفر لك المجتمع أبداً !
ولو أنك إذ لقيته نصبت له صدرك، وزويت عنه بصرك، وأريته الحزن والإعراض … فإذا لم يصرفه عنك هذا الصد، وإذا بلغت به الوقاحة أن ينال منك بلسان أو يد، نزعت حذاءك من رجلك، ونزلت به على رأسه، لو أنك فعلت هذا، لرأيت من كل من يمر في الطريق عوناً لك عليه، ولما جرؤ بعدها فاجر على ذات سوار، ولجاءك -إن كان صالحاً- تائباً مستغفراً، يسأل الصلة بالحلال: جاءك يطلب الزواج
والبنت مهما بلغت من المنزلة والغنى والشهرة والجاه، لا تجد أملها الأكبر وسعادتها إلا في الزواج، في أن تكون زوجاً صالحة، وأماً مرموقة، وربة بيت، سواء في ذلك الملكات والأميرات، وممثلات هوليود ذوات الشهرة والبريق الذي يخدع كثيرات من النساء، وأنا أعرف أديبتين كبيرتين في مصر والشام، أديبتين حقاً، جُمع لهما المال والمجد الأدبي، ولكنهما فقدتا الزواج، ففقدتا العقل، وصارتا مجنونتين، ولا تحرجيني بسؤالي عن الأسماء لأنها معروفة!
الزواج أقصى أماني المرأة ولو صارت عضوة البرلمان ،وصاحبة السلطان . والفاسقة المستهترة لا يتزوجها أحد . وحتى الذي يغوي البنت الشريفة بوعد الزواج ، إن هي غوت وسقطت، تركها وذهب إذا أراد الزواج، فتزوج غيرها من الشريفات، لأنه لا يرضى أن تكون ربة بيته وأم بنته، امرأة ساقطة.